آذان الفجر من المسجد الأقصى المبارك يرفعه المؤذن ناجي القزاز | الجمعة 15-12-2023م

فلسفة العقوبات في الاسلام وغايتها

فلسفة العقوبات في الاسلام وغايتها 
 الكاتب د اسماعيل نواهضة

موضوع العقوبات في هذه الأيام حديث الساعة ، ويثار حوله جدل كثير نظراً لإعداد مشروع لنظام العقوبات وتقديمه إلى المجلس التشريعي الفلسطيني لإقراره . وتتبارى الأقلام فيه ما بين مؤيد ومعارض . وإن كانت نسبة المؤيدين له تكاد لا تذكر ... وعليه فإني أضع بين يدي القارئ تصوراً عاماً عن فلسفة العقوبات في الإسلام والغاية منها والتعرض للشبهات التي أثيرت وتثار حول هذا الموضوع مع بيان مزايا العقوبات في الإسلام .
 فالشريعة الإسلامية تحرص على حمل الناس على طاعة أوامرها ونواهيها طاعة اختيارية تنبعث من أعماق النفس ، وتعتمد في تحقيق هذه الطاعة على تنبيه وإيقاظ الشعور الإيماني في النفوس ، وتذكير الناس باليوم الآخر وما فيه من الجزاء والحساب مع بيان ما في هذه الأوامر والنواهي من خير ومصلحة للناس في الدنيا والىخرة ولكن هذا لايكفي لحمل الناس على هذه الطاعة ، وذلك لأن الناس ليسوا متساوين في يقظة الضمير الديني والإنساني ، وتحقق الإيمان واستحضار اليوم الآخر وخشيته .
كما أن من الناس من تغلب عليهم نوازع الشر والهوى وحب المنافع ولو كان ذلك على حساب الآخرين .
 وانطلاقاً من هذا الاعتبار فإن العقوبات التي توقعها الدولة على الذنوب والجرائم هي السبيل الملزم لتنفيذ أوامر الله ونواهيه فالله تعالى شرع الأحكام ، وشرع أحكاماً أخرى لتنفيذها وهي احكام العقوبات ، فقتل المرتد شرعه الله حفاظاً للعقول ، وحد الزنى والقذف شرعهما الله تعالى حفاظاً للأنساب والحرمات ، وحد السرقة وقطع الطريق شرعهما الله تعالى حفاظاً للأموال .[1]
وأما بالنسبة للغاية من العقوبة في الإسلام فإنها تتمثل بما يلي :
1-  ردع المجرم عن جريمته فالعقوبة رادع للجريمة تجدها سندها في غريزة الخوف عند الإنسان ، وفيما فطر عليه من حرص على كف الأذى عن نفسه ، وعلى هذا الأساس إذا رأى الإنسان في الجريمة نفعاً وأراد ارتكابها ، فإن شبح العقاب المرعب يردعه عنها ، وحتى إذا زينت له نفسه ارتكاب الجريمة ، فإن إيقاع العقاب عليه يمنعه من العودة إلى الجريمة مرة ثانية ، كما يزجر الآخرين عن ارتكابها ، لئلا يصيبهم ما أصابه ، ولهذا قيل عن العقوبات " إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده "[2] وقيل " إنها زواجر وجوابر "[3] .
 أما كونها زواجر فلأنها تزجر الناس عن فعل الذنوب وارتكاب الجرائم ، وأم كونها جوابر فلأنها تجبر عقوبة الآخرة .
2-  حماية مصالح الناس وضرورات حياتهم المتثلة في الدين والنفس والمال والعقل والنسل التي يجب رعايتها ، لأنه لا قيام للحياة بدونها لذلك اعتبرت الشريعة الإسلامية الاعتداء عليها جرماً يستوجب العقاب فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة هو مصلحة ، وكل مايفوت هذه الأصول فهو مفسدة يعد دفعها مصلحة.
3-  إصلاح المجرم وتقويم اعوجاجه فإن العقوبات في الإسلام تهدف إلى علاج المجرم إصلاحه ، ولذلك فهي من هذه الناحية تعد رحمة للناس .[4]
الشبهات التي تثار حول نظام العقوبات في الإسلام :
 فقد أثار البعض سبهة حول هذا النظام تمثلت بأن أحكام الحدود فيه قاسية لا تساير روح العصر ، ولا تتفق مع النظرة الجديدة في تحليل نفسية المجرم ، كما يزعم هؤلاء ويقولون : هل يمكن لمثل هذه العقوبات القاسية وغير المتحضرة أن تطبق اليوم ؟ وهل يجوز أن تقطع يد اذي يسرق ربع دينار ؟
ويرد على هذه الشبهات :
1-  إن عنصر القسوة يمثل الركن الأساسي لمنع العقوبة ، بحيث لو فقدت القسوة فقدت معها العقوبة بدون شك . وإن الذي يحدد قسوة العقوبة فظاعة الجريمة وخطرتها . وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع علماء الشرائع والقوانين مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب ، وإذا كان من الناس من يصف حدود الشريعة الإسلامية بأن فيها قسوة زائدة ، فإن ذلك راجع إلى ما يخفيه هؤلاء من عداوة واضحة لتعاليم الإسلام بالإضافة إلى عدم إدراكهم لخطورة الجرائم التي عاقبت عليها الحدود .
 كما أن إدعاء القسوة والشدة مظهر من مظاهر السطحية في فهمها بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها ، فالعقوبة في الإسلام أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو علاجاً بعد الوقوع ، وعليه فإن الحدود التي فرضها الإسلام هذه من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع .
2-  العقوبات في الشريعة الإسلامية لم تقرر جزافاً ولاتنفذ بلا حساب ، ونظام الإسلام يتميز عن كل نظم الأرض حيث انه يلااعي الحالات والظروف التي تقع فيها الجرائم . كما انه يقرر شروطاً واضحة لإقامتها ، كما هو مفصل في نظام العقوبات في الإسلام . وفي عام الرمادة ( عام الجوع) لم ينفذ عمر بن الخطاب حد السرقة لوجود شبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع .
3-  ان الإسلام يلجأ أولاً إلى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة ، وبعد ذلك لا قبله يقرر عقوبته الرادعة التي قلما تنفذ لشدة وسائل إثباتها وقد ثبت ان العقوبات الوضعية لم تفلح في ردع الناس عن ارتكاب الجرائم ، وقد رأينا في الآونة الأخيرة أن البعض من غير المسلمين قد نادى بتبني العقوبات التي فرضها الإسلام لصلاحيتها في الردع عن الجريمة .[5]
مزايا العقوبات في الإسلام :
 فالعقوبات في الإسلام لها مزايا وخصائص فريدة تجعلها متميزة عن غيرها في القوانين الوضعية . فهي لا تصيب إلا من ارتكب الجريمة لقوله تعالى ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[6] .
 كما أنها تطبق على الجميع بدون استثناء أو تفريق بين حاكم أو محكوم أو غني أو فقير أو رجل أوامرأة . فأوضح مثال على ذلك رفض الرسول r شفاعة أسامة بن زيد في فاطمة المخزومية التي سرقت .
 والعقوبات في الإسلام محددة لا تزيد ولاتنقص باستثناء جرائم التعزير حيث يترك تقديرها إلى القاضي او الحاكم على عكس العقوبات في القوانين الوضعية فهي تزيد وتنقص حسب الظروف والأحوال فهي ليست صالحة لكل زمان ومكان وأخيراً العقوبات في الإسلام ذات أساس ثابت لكونها من عند الله تعالى .
 وأختم بالقول ليس بعد حكم الله حكم وليس بعد بيان الله بيان ، ولن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به اولها . زصدق الله العظيم القائل : (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126))[7] .


[1] - انظر دراسات في الفكر العربي الإسلامي ، تأليف د. ابراهيم زيد الكيلاني . د. همام عبد الرحيم سعيد د. صالح ذياب هندي ص 228-232 طبعة دار الفكر للنشر والتوزيع .
[2] - انظر فتح القدير للإمام الشوكاني الجزء الرابع ص :114 .
[3] - انظر نظام العقوبات تأليف عبد الرحمن الملكي ص : 7 .
[4] - دراسات في الثقافة الإسلامية ص141 تأليف د. صالح ذياب هندي .
[5] - انظر على طريق العودة إلى الإسلام ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ص101 .
[6] - سورة الأنعام : آية 164 .
[7] - سورة طه الآيات من 123-1266 .
ملاحظة :
سيقوم فضيلة الدكتور الشيخ إسماعيل نواهضة بإذن الله وحوله بإعطاء سلسلة دروس في محراب المصلى القبلي من المسجد الاقصى المبارك كل يوم جمعة وبعد صلاة الجمعة مباشرة، وستكون سلسلته بعنون (في رحاب القرآن الكريم). وستكون بداية سلسلة من تاريخ 13/1/2017. فشاركونا اللقاء.
نسأل الله له التوفيق ولمستمعيه الفائدة وفي موازين حسناتكم بإذن الله



تعليقات